مقتطفات من تاريخ
الانشقاقات المسيحية الرئيسية

قائمة المُحتويات:
( أ ) العالم المسيحي اليوم
( ب) الانشقاق الأول (451م): انشقاق خلقيدون
( 1 ) محاولات حديثة لاستعادة حياة الشركة بين مجموعتي الكنائس الأرثوذكسية
(ج ) الانشقاق الثاني (يوليو 1054م): الانشقاق الكاثوليكي
( 1 ) خلفية الانشقاق التاريخية
( 2 ) الأحداث المؤدية إلى الانشقاق
( 3 ) محاولات الصلح
( د ) الانشقاق الثالث (1521م): الإصلاح البروتستنتي
( 1 ) فساد رجال الكهنوت الكاثوليكي
( 2 ) الإصلاح البروتستنتي


آيات للتأمل من الكتاب المقدس:
"وَلَكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِداً وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ" (كُورِنْثُوسَ الأُولَى 1: 10)؛ "فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَاداً" (كُورِنْثُوسَ الأُولَى 12: 26-27)؛ "أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ هَذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ" (كُورِنْثُوسَ الأُولَى 13: 13)؛ "جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ. رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلَهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ" (أَفَسُسَ 4: 4-6).


( أ ) العالم المسيحي اليوم

يوجد في عالم اليوم ثلاثة مذاهب مسيحية رئيسية: الكاثوليكية، الأرثوذكسية، والبروتستانتية. في عام 2010م، كان تعداد سكان العالم حوالي 7 بليون نسمة، وبلغ عدد المسيحيين 2.2 بليون شخصا، أي حوالي ثلث سكان العالم. معنى ذلك أن المسيحية هي ديانة أقلية في عالم اليوم. لا شك، ينبغي على المسيحيين أن يقوموا بأعمال تبشيرية كثيرة في عالم اليوم حتى يضيء نور المسيح حياة 4.8 بليون شخص يعيشون في ظلام بعيدا عنه.

كان التعداد التقريبي للمسيحيين في المذاهب المختلفة هو كالآتي:
1,100 مليون كاثوليكي، 300 مليون أرثوذكسي، 800 مليون بروتستنتي.

الكنائس البروتستنتية هي أسرع الكنائس نموا بسبب تأكيدهم على الكرازة والتبشير في تعاليمهم ونشاطهم. بوجه عام، الكنائس الأرثوذكسية هي أقل الكنائس نشاطا في مجال الكرازة. ذلك لتعرض هذه الكنائس لاضطهادات كثيرة لأزمنة طويلة. ولقد بدأ هذا في التغير تدريجيا.

تنقسم الكنائس الأرثوذكسية اليوم إلى مجموعتين من الكنائس ليس بينهما حياة شركة:

1. الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية ويبلغ تعدادها حوالي 220 مليون عضوا،

2. الكنائس الأرثوذكسية الشرقية الغير خلقيدونية ويبلغ تعدادها حوالي 80 مليون عضوا.

الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية الرئيسية هي كنائس أنطاكية، القدس، روسيا (أكبر كنيسة أرثوذكسية)، رومانيا، بلغاريا، الصرب، ألبانيا، اليونان، جورجيا، قبرص، أمريكا، وبطريركية القسطنطينية (إستانبول). الكنائس الأرثوذكسية الشرقية الرئيسية هي كنائس إثيوبيا (أكبر كنيسة أرثوذكسية شرقية وبها حوالي 55 مليون عضوا)، إرتريا، مصر (الكنيسة القبطية وبها حوالي 12 مليون عضوا)، أرمينيا، سورية (اليعقوبيين)، وكنيسة توما الرسول في جنوب الهند.

رئاسة كل كنيسة أرثوذكسية مستقلة عن الكنائس الأخرى. فكل كنيسة أرثوذكسية لها كهنتها وأساقفتها وبطريركها ومجمع أساقفتها (المجمع المقدس). المجمع المقدس هو أعلى سلطة في الكنيسة الأرثوذكسية. جميع أعضاء الكنيسة الأرثوذكسية غير معصومين من الخطأ، بما في ذلك العلمانيين، ورجال الدين، والرهبان والراهبات. كما أن المجامع المقدسة ليست معصومة من الخطأ. فقط الضمير الكنسي، الذي يرشده الروح القدس للإله الحي، هو معصوم من الخطأ. ألاتفاق الإجماعي المنسجم لجميع عناصر جسد المسيح على الأرض (العلمانيين ورجال الدين والرهبان) يعلن ويعبر عن الضمير الكنسي للكنيسة الأرثوذكسية. هذا هو ما يحافظ على الطريقة الديمقراطية في إدارة الكنيسة الأرثوذكسية.

( ب) الانشقاق الأول (451م): انشقاق خلقيدون

عُقد المجمع المسكوني الرابع في خلقيدون، إحدى ضواحي القسطنطينية، في 451م لمناقشة طبيعة وشخص السيد المسيح، وقد حضره حوالي 600 أسقفا. إتخذ المجمع قرارت ضد الرأي الإسكندري الذي دافع عنه البطريرك الإسكندري ديوسقورس. قرر المجمع نفيه، وتنيح في منفاه في عام 454م. عين المجمع بموافقة الإمبراطور قس اسكندري اسمه بروتيريوس بدلا منه على كرسي بطريركية الإسكندرية (452-7م). لم يرضى الأقباط بذلك ونصبوا البطريرك تيموثاؤس الثاني (إيلورس) بعد موت ديوسقورس. ثم ثاروا ضد الأسقف الدخيل، واغتالوه في الإسكندرية، وحرقوا جثته. منذ ذلك الحين وحتى الآن، يوجد في مصر بطريركيتين: بطريركية ملكية يونانية أرثوذكسية خلقيدونية تابعة لبطريركية إستانبول، والبطريركية القبطية الأرثوذكسية الغير خلقيدونية الوطنية. حاليا، ليس للأسقف اليوناني بالإسكندرية أي أتباع بمصر. مسئوليته الرئيسية هي الكرازة في بلاد أفريقيا الوسطى. وقد تعرضت الكنائس المحلية التي رفضت قرارات مجمع خلقيدون إلى اضطهادات متنوعة في الإمبراطورية البيزنطية. فمارست نشاطها في الخفاء حتى الغزو الإسلامي في القرن السابع.

تقبل اليوم كل الكنائس (الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والكنائس البروتستنتية الرئيسية)، فيما عدا الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، صيغة مجمع خلقيدون بشأن طبيعة وشخص السيد المسيح.

( 1 ) محاولات حديثة لاستعادة حياة الشركة بين مجموعتي الكنائس الأرثوذكسية

حاول العديد من الأباطرة البيزنطيين استعادة حياة الشركة بين الكنائس الخلقيدونية والغير خلقيدونية في الإمبراطورية البيزنطية قبل الغزو الإسلامي العربي. باءت هذه المحاولات بالفشل.

في العصر الحديث، حدثت مناقشات لاهوتية عديدة في أوربا والشرق الأوسط بين ممثلي مجموعتي الكنائس الأرثوذكسية. بدأت هذه الاجتماعات في جامعة آرهوس بالدنمرك في عام 1964، وانتهت في جنيف بسويسرا في عام 1990. أدرك ممثلي مجموعتي الكنائس الأرثوذكسية في هذه المناقشات أن كافة هذه الكنائس تحتفظ بنفس الإيمان الصحيح بخصوص طبيعة شخص السيد المسيح، وأن الاختلافات بينهما هي مجرد اختلافات لفظية في التعبير عن هذا الإيمان الواحد الذي يشتركون فيه. لذلك تم توقيع اتفاقية تاريخية بشأن صيغة موحدة للتعبير عن الإيمان بطبيعة شخص السيد المسيح في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون بمصر في يونيو 1989. ثم أصدرت اللجنة التي تمثل مجموعتي الكنائس في سبتمبر 1990 في جنيف قراراتها وتوصياتها التي تؤكد الإيمان الواحد وتوصي برفع الحرمان المتبادل بين هذه الكنائس والإعداد لاستعادة حياة الشركة الكاملة بينها.

من المؤسف حقا أن حياة الشركة لم تعد بعد بين مجموعتي الكنائس الأرثوذكسية بسبب عوامل سياسية كنسية، وبقايا معارضة متزمتة في الطرفين. دعنا نصلي إلى رب المجد لكي تعود حياة الشركة الكاملة في العالم الأرثوذكسي في هذا الجيل.

(ج ) الانشقاق الثاني (يوليو 1054م): الإنشقاق الكاثوليكي

( 1 ) خلفية الانشقاق التاريخية

الانشقاق بين الكنائس الغربية والشرقية له جذور كثيرة. نشأت الاختلافات تدريجيا على مر القرون من الزمان. استخدمت الإمبراطورية الرومانية الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية) اللغة اليونانية. بينما استخدمت الإمبراطورية الرومانية الغربية اللغة اللاتينية. الاختلاف لم ينحصر في اللغات فقط بل امتد إلى أسس التفكير اللاهوتي. اللاهوتيات الأرثوذكسية مؤسسة على الكتاب المقدس وأقوال وكتابات آباء الكنيسة الأولين. بينما تعتمد اللاهوتيات الغربية اللاتينية بدرجة كبيرة على الفلسفة اليونانية (الإغريقية) القديمة، وخاصة فلسفة أرسطوطاليس. هذا بالإضافة إلى الاختلافات الكبيرة في التطورات التاريخية بين الشرق والغرب. غزوات وهجرات البربر في الإمبراطورية الرومانية الغربية أضعفت الوحدة الثقافية والاقتصادية بين الشرق والغرب، وأدت إلى ازدياد التأثير الألماني على الكنيسة الغربية اللاتينية.

تبلور التباعد التدريجي في الاختلافات التالية التي أدت أخيرا إلى الانشقاق بين الكنائس الغربية والشرقية:
1. منافسة سياسية بخصوص السلطة الكنسية بين بطريرك القسطنطينية (ممثلا الكنائس الشرقية) يؤيده الإمبراطور البيزنطي، وبين أسقف (بابا) روما في الغرب تحب تأثير الإمبراطورية الألمانية الجديدة في الغرب. أصر أسقف روما على أن يكون الرئيس الأعلى لكافة كنائس الأرض. بينما اعتمدت الكنائس الشرقية على النظام المجلسي في إدارة شؤونها. كان لكل كنيسة وطنية كهنتها وأساقفتها ومجمعها المقدس من أساقفتها، الذي هو أعلى سلطة فيها.
2. إنبثاق الروح القدس. يخبرنا قانون الإيمان النيقي الذي أصدره المجمع المسكوني الأول (325م) وأكمله المجمع المسكوني الثاني (381م) أن الروح القدس منبثق من الله الآب وحده. أضافت الكنيسة اللاتينية في الغرب إلى قانون الإيمان أن الروح القدس منبثق من الابن أيضا. لم تكن هذه الإضافة لقانون الإيمان النيقي قانونية لأنه لم يوافق أو يصدق عليها أي مجمع مسكوني.
3. إستخدمت الكنيسة اللاتينية (الغربية) خبزا غير مختمر في سر التناول المقدس. بينما استخدمت الكنائس الشرقية دائما خبزا مختمرا في سر التناول المقدس.
4. كان الكهنة اللاتينيون غير متزوجين، وبدن لحية. بيمنا كان الكهنة الشرقيون متزوجين (فيما عدا كهنة الأديرة) وذي لحية.

( 2 ) الأحداث المؤدية إلى الانشقاق

أدت الاختلافات اللاهوتية والطقسية والكنسية بين الكنائس الشرقية (اليونانية) والكنائس الغربية (اللاتينية) إلى احتكاكات ومشاكل بينها تزايدت في عهد البطريرك ميخائيل سيرولريوس (1043-1058م) لمدينة القسطنطينية. أمر هذا البطريرك بإغلاق الكنائس اللاتينية في القسطنطينية وجنوب إيطاليا. أغضب هذا الفعل البابا الروماني ليو التاسع الذي أرسل خطاب احتجاج إلى البطريرك سيرولريوس في القسطنطينية مع وفد بابوي يرأسه كاردينال هوبرت. أصر كاردينال هوبرت والبطريرك سيرولريوس على موقفهما. ولم تؤدي المناقشات اللاهوتية التي أشرف عليها الإمبراطور البيزنطي بدون اشتراك البطريرك سيرولريوس إلى أية نتيجة. في 16 يوليو 1054 أصدر كاردينال هوبرت قرارا بابويا بحرمان البطريرك سيرولريوس ومعاونيه. ترك هذا القرار على مذبح كاتدرائية القديسة صوفيا، أكبر كاتدرائية في القسطنطينية، في قداس الصباح الذي رأسه البطريرك سيرولريوس، ثم غادر القسطنطينية. ردا على ذلك، عقد البطريرك سيرولريوس مجمعه المقدس في القسطنطينية وحرم أعضاء الوفد الروماني البابوي الثلاثة. لكنه لم يحرم البابا الروماني ليو التاسع الذي كان قد توفي في 19 أبريل 1054م قبل الحرمان. وقد أيد بطاركة الإسكندرية وأنطاكية والقدس موقف بطريرك القسطنطينية. حتى هذا الحد، كانت كل هذه اختلافات كنسية لاهوتية بين رؤساء الكنائس لم يتأثر بها شعوب هذه الكنائس. لذلك يعتقد المؤرخون أن الانشقاق الفعلي قد تم في 14 أبريل 1204م عندما غزت الحملة الصليبية اللاتينية الرابعة مدينة القسطنطينية، ونهبتها. لم يغفر الشرق اليوناني للغرب اللاتيني هذا الفعل ولم يثق به بعد ذلك.

( 3 ) محاولات الصلح

بعد عودة الحكم البيزنطي إلى القسطنطينية في 1261م، حدثت محاولتين للوحدة بين الشرق والغرب قبل سقوك الإمبراطورية البيزنطية للغزو التركي. تمت هذين المحاولتين تحت ضغط من الإمبراطور البيزنطي لكي يحصل على معونة عسكرية من الغرب اللاتيني ليؤمن حدود الإمبراطورية من الخطر التركي. تمت أول محاولة في مجمع مدينة ليون في 1274م، والأخرى في مجمع مدينة فرارا-فلورنس في 1438-39م. كانت الاتفاقات التي تم توقيعها في هذين المجمعين استسلاما كاملا لمطالب البابا الروماني. أدى هذا إلى اضطراب وشغب كبير في القسطنطينية. فقد رفض هذه الاتفاقات معظم رجال الكهنوت والشعب الأرثوذكسي بالقسطنطينية. لم يحصل قسطنطين الحادي عشر، آخر امبراطور بيزنطي، على المعونة العسكرية المرجوة من الغرب. فسقطت القسطنطينية للغزو التركي في 1453م وقتل الإمبراطور في شوارع المدينة أثناء القتال دفاعا عنها في آخر معركة للإمبراطورية البيزنطية في التاريخ. ولقد غير الأتراك اسم مدينة القسطنطينية إلى إستانبول.

إزدادت الهوة بين الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية في القرنين التاسع عشر والعشرين عندما أدخلت الكنيسة الكاثوليكية مبادئ جديدة في إيمانها مثل: الحبل بلا دنس بالقديسة مريم (1854م)، عصمة البابا الروماني فيما يختص بالعقيدة (1870م)، والاعتراف بإله الإسلام الزائف (المجمع الفاتيكاني الثاني، 1962-5).

قام أثيناجورس، البطريرك الأرثوذكسي لاستانبول، والبابا الكاثوليكي بولس السادس بإزالة الحروم بين القسطنطينية وروما في سنة 1965م. لم ينتج عن هذا استعادة حياة الشركة بين الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية ذلك لأنه لم يتم حل الاختلافات العقيدية والكنسية بعد. تشكلت لجنة مشتركة لدراسة وحل هذه الاختلافات في سنة 1979م. مازال عمل هذه اللجنة مستمرا.

( د ) الانشقاق الثالث (1521م): الإصلاح البروتستنتي

( 1 ) فساد رجال الكهنوت الكاثوليكي

إنتشر الفساد في رجال الكهنوت بالكنيسة الكاثوليكية بأوربا في العصور الوسطى. إنتشرت السيمونية (المتاجرة بالرتب الكهنوتية). باع بعض الكهنة الأسرار المقدسة لربح مادي. كان كثير من الكهنة الكاثوليك مدمني خمور وزناة وغير جديرين برتبهم الكهنوتية. كان لبعض هؤلاء الكهنة عشيقات وأطفال غير شرعيين. وارتكب آخرون جرائم مختلفة مثل جريمة القتل وحُكم عليهم بعقوبات مخففة بسبب امتيازات رتبهم الكهنوتية. إشترى بعض الباباوات رتبتهم بأموالهم ودافعوا عنها بالسيف والسم. إحتقرت الشعوب الكاثوليكية الفساد المنتشر في رجال الكهنوت الكاثوليكي وحنقت على سلطة البابا، وصرخت مطالبة بالإصلاح.

إعتاد الباباوات الكاثوليك أن يجمعوا مقاديرا كبيرة من المال بإصدار صكوك الغفران وبيعها بواسطة رجال الكهنوت لأغراض مختلفة: مثل تمويل الحملات الصليبية، وبناء كاتدرائيات كبيرة، إلخ. ما هو مبدأ صكوك الغفران وأعمال الصلاح الزائدة عن المطلوب للقديسين، التي تعتنقه الكنيسة الكاثوليكية بينما تعارضه وتستنكره بشدة الكنيسة الأرثوذكسية؟ تعلم الكنيسة الكاثوليكية أن هناك نوعين من العقوبات للخطايا: عقوبة أبدية وأخرى زمنية. تؤدي التوبة المصحوبة بالإيمان بالسيد المسيح إلى المغفرة وإزالة العقوبة الأبدية التي أداها السيد المسيح على الصليب. لكن قبول تضحية السيد المسيح الكفارية بالإيمان والتوبة لا يزيل العقوبة الزمنية. يتم تأدية العقوبة الزمنية في المطهر بعد الموت الجسدي لأن حياة الإنسان قصيرة على الأرض وغير كافية لتأدية العقوبة الزمنية. لكن تستطيع الكنيسة أن توفي متطلبات هذه العقوبة بالأخذ من كنوز النعمة الفائضة للأعمال الصالحة الغزيرة للسيد المسيح والقديسين. ذلك أن الكنيسة الكاثوليكية تعتقد أن أعمال القديسين الصالحة تزيد بكثير عما يحتاجونه لخلاص نفوسهم. لهذا يستخدم رجال الكهنوت الكاثوليكي صكوك الغفران لتوزيع نعمة هذه الأعمال الصالحة الفائضة على المؤمنين الذين ليس لديهم أعمال صالحة كافية. هذه من الفروق العقيدية الهامة بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية.

قام بضعة رجال في أوربا الغربية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بانتقاد بعض أمور مختصة بالعقيدة الكاثوليكية وسلطة البابا. كانوا سابقين للإصلاح البروتستنتي الذي قاده مارتن لوثر في القرن السادس عشر. كان أشهرهم جون وكليف بإنجلترا، جون هص ببوهيميا (حُرق حيا في عام 1415م)، سفونارولا بفلورنسا، وويسل بشمال ألمانيا.

( 2 ) الإصلاح البروتستنتي

ولد مارتن لوثر (1483-1546م) في عام 1483 لعامل مناجم في مقاطعة ساكسني بألمانيا. أصبح راهبا كاثوليكيا بعد انتهائه من دراسته الجامعية، ثم رسم كاهنا في عام 1507م. حصل على الدكتوراه في اللاهوت وأصبح أستاذا في تفسير الكتاب المقدس في عام 1511م بجامعة وتنبرج بألمانيا. عين وكيلا مسئولا عن 11 دير كاثوليكي في عام 1515م.

أصدر البابا ليو العاشر صكوك غفران للبيع لتمويل تجديد كاتدرائية القديس بطرس في روما. عارض مارتن لوثر بشدة مبدأ صكوك الغفران. في 31 أكتوبر 1517 علق لوثر على باب كنيسة قلعة وتنبرج قائمة بها 95 تفنيدا لمبدأ صكوك الغفران. إجتذبت هذه القائمة انتباها كبيرا في جميع أنحاء ألمانيا. كانت هذه بداية الحركة البروتستانتية. قام أمير مقاطعة ساكسني بحماية لوثر من أي اعتداء. أستدعي لوثر للمثول أمام كاردينال كاجتان في أوجسبرج في أكتوبر 1518م، فرفض تغيير موقفه وهرب لسلامته إلى وتنبرج. بدأ لوثر يكتب ويعظ ضد تعاليم كثيرة للكنيسة الكاثوليكية. كان يهدف إلى إصلاح الكنيسة الكاثوليكية وتنقيتها. في عام 1520م أيدته كل ألمانيا تقريبا. في 15 يونيو 1520 أصدر البابا قرارا يدين 41 من تعاليم لوثر ويأمر بحرق كتب لوثر، ويعطي لوثر شهرين ليغير موقفه. في صباح 10 ديسمبر 1520م قام لوثر بحرق القرار البابوي وكتب كاثوليكية كثيرة في احتفال عام حضره الكثير خارج مدينة وتنبرج. أدى هذا إلى حرمانه من الكنيسة الكاثوليكية في قرار بابوي صادر في 3 يناير 1521م. وبهذا تم الانشقاق البروتستنتي.

قام لوثر بترجمة كتب العهد الجديد إلى الألمانية، وأخرج كتابا للتراتيل الدينية بالألمانية. صرح للرهبان والراهبات بترك أديرتهم، وصرح بالزواج للكهنة، وبسط القداس الكاثوليكي، وقلل أسرار الكنيسة من سبعة أسرار إلى اثنين (العماد والتناول). خلع ثوب الرهبنة في عام 1524م وتزوج من راهبة سابقة في 1525م. الأسس العقيدية للكنيسة اللوثرية مؤسسة على اعتراف أوجسبرج لعام 1530م. مكنت الأوضاع السياسية والعسكرية آنذاك الكنيسة اللوثرية المبتدئة من النمو والتماسك سلميا. كانت ألمانيا في ذلك الحين مقسمة. كون الأمراء والمدن الذين أيدوا الإصلاح اللوثري تحالفا قادرا أن يقاوم أي اعتداء كاثوليكي عسكري. كما أن التهديد التركي لوسط أوربا الكاثوليكي منع الكاثوليك من مهاجمة البروتستنت. إنتشرت الثورة اللوثرية في غرب وشمال أوربا.

ركز لوثر في تعليمه على الحياة الروحية، وجاهد لزرع إنجيل السيد المسيح في قلوب وبيوت والحياة اليومية للناس. يمكن تلخيص نجاح لوثر في أربعة إنجازات: كتاب مقدس بالألمانية، قداس ألماني، ترانيم ألمانية، وتعاليم مسيحية بالألمانية. كان كل هذا باللغة اللاتينية في الكنيسة الكاثوليكية آنذاك. لم يفهم اللغة اللاتينية سوي العلماء وبعض رجال الكهنوت.

تقريبا في نفس الوقت، قام زوينجلي (1484-1531م) في زيورخ بمعارضة التعاليم الكاثوليكية. الفارق الرئيسي بين زوينجلي ولوثر هو موقفهما بالنسبة إلى سر التناول المقدس. آمن لوثر بوجود جسد ودم السيد المسيح في العناصر بعد تقديسها متحدين بهم. هذا الإيمان يختلف عن الإيمان الأرثوذكسي والكاثوليكي بتحول الخبز والخمر بعد تقديسهما إلى جسد ودم السيد المسيح، بينما لا تتغير خواصهما الخارجية من مذاق، ولون، ورائحة، إلخ. لكن آمن زوينجلي أن وجود السيد المسيح في العناصر بعد تقديسها هو وجود رمزي فقط. مازال هذا الاختلاف قائما بين الفرع اللوثري والفرع الإصلاحي في البروتستنتية. الكنيسة اللوثرية هي أكبر كنيسة بروتستنتية اليوم.

نظم كلفن (1509-64م) الكنيسة البروتستنتية في جنيف. وأكد في تعليمه على مبدأ التسيير (القضاء والقدر). الكنائس البرسبترية (المشيخية) والتجمعية هي أكبر الكنائس الكلفنية اليوم.

لا تعترف كل الكنائس البروتستنتية بسلطة التقليد الكنسي المقدس (قانون الإيمان، قرارات المجامع المسكونية، كتابات آباء الكنيسة الأولين، القداس الإلهي، الأيقونات، إلخ). تعتمد هذه الكنائس على الكتاب المقدس فقط. ولقد ورثت هذه الكنائس مبدأ انبثاق الروح القدس من الآب والابن أيضا من الكنيسة الكاثوليكية.